نبذة عن الحلقة:
أنا شيخة الجساسية، أصحبكم في بودكاست نور الذي أتحدث فيه عن رعاية وتنشئة الطفل الفاقد للبصر.
بودكاست نور عبارة عن سلسلة من الحلقات التي أمزج فيها بين تجربتي كوني فاقدة للبصر، وتجارب الآخرين ممن مر بنفس التجربة وبعض النظريات العلمية والعملية المجربة، وبذلك أحاول الإجابة عن بعض التساءلات وإزالة بعض المخاوف التي قد تراود الآباء والأمهات عند تنشئة طفل فاقد للبصر حتى يتمكنوا من صنع تجربة مميزة لهم، وتنشئة فرد كفيف لديه ثقة بقدراته وطاقاته، معتمد على ذاته، فاعل ومساهم في مجتمعه.
في الحلقة الأولى أعرفكم بنفسي وأسرد لكم تجاربي الحياتية المليئة بالتحديات والمحطات المختلفة.
هذه الحلقة ليست موجهة للآباء والأمهات فقط، وإنما لأي شخص يرغب في التعرف على عالم الكفيف أو يود رؤية الحياة من زوايا مختلفة لم يعتد عليها فلربما يجد فيها ما يلهمه.
المقدمة
عنوان الحلقة:
حكايتي مع النور والظلمة
تواصل معي مجموعة من آباء وأمهات عبر تويتر ممن رزقوا بأطفال فاقدين للبصر وقالوا أنني منحتهم جرعات من الأمل والتفاءل لمستقبل أبنائهم.
معظمهم كانت لديهم تساؤلات مثل: كيف أتعامل مع طفلي؟ كيف ألعب معه؟ أيش نوع الألعاب اللي اختارها له؟ كيف أعلمه المشي والحركة؟ كيف أعلمه الأكل وارتداء الملابس؟ كيف أخليه يتخلص من الخوف؟ وغيرها الكثير من الأسئلة،
وهذا ما دفعني لتقديم بودكاست نور وهي عبارة عن سلسلة أمزج فيها بين تجربتي كوني فاقدة للبصر أيضا، وتجارب غيري وبعض النظريات العلمية والعملية المجربة لتنشئة الطفل الفاقد للبصر بشكل أفضل.
كل قصص النجاح والإنجازات الصغيرة أو الكبيرة التي حققها ذوي الإعاقة بمختلف أنواعها كان وراءها بعد توفيق الله ولطفه أم أو أب آمنوا بقدرات وطاقات أبناءهم فأشعلوا لهم من عيونهم نورا يهتدون به يوصلهم إلى التميز والإبداع.
لذا بودكاست نور، يحاول أن يجيب على التساءلات التي يحتار في أمرها الآباء والأمهات عند تربية طفل فاقد للبصر، وإزالة القلق والتوتر عنهم، ومنحهم خلاصة تجارب من مر بنفس التجربة، حتى يتمكنوا من صنع تجربة مميزة لهم، وتنشئة فرد كفيف لديه ثقة بقدراته وطاقات، معتمد على ذاته، فاعل ومساهم في مجتمعه.
حكايتي مع النور والظلمة
بعد انتظار دام 9 أشهر، جئت إلى هذه الحياة تغمرني فرحة أبي وأمي، الذان حلما كثيرا بهذا اليوم السعيد، وأعدا له الخطط ورسما الأماني والتطلعات.
كان كل شيء طبيعيًا، كل شيء مبهج وجميل، وهبهما الله طفلتهما الأولى، وتهلل جميع من حولهم.
بعد بضعة أشهر، اكتشفا بأني عمياء، لا أراهم ولا أرى حركاتهم وإيمائاتهم، لا ابتسم لها، فيال الخيبة والألم والحزن.
سأتحدث عن هذه المرحلة في الحلقة القادمة بتفصيل أكثر، لأنها من أصعب وأهم المراحل.
كان أبي أنذاك يحظى بعلم واطلاع وثقافة عالية، بينما كانت أمي صغيرة السن، ذات تعليم محدود وخبرة حياتية بسيطة جدًا.
لم يعرف أبي وأمي أي أعمى من قبل، لا من قريب ولا من بعيد، كان الأمر غريبًا على العائلة والمجتمع المحيط.
كان أول ما فعلاه بعد التعافي من الصدمة هو البحث عن علاج ومعرفة أسباب حدوث ما حدث، فخذوني إلى لندن.
عرفوا هناك أن اللي صار كان وراثي، وأن الأمل في استعادة النظر ضعيف جدًا بسبب ارتفاع ضغط العين وصغر القرنية ونصحهما الأطباء بعدم إجراء أي عملية حتى يكتمل نمو العين.
قرأ أبي كثير عن كيفية تربية الطفل الفاقد للبصر ونقل ما قرأه لأمي ومن حولها، فقرروا تربيتي كأي طفل مع مراعاة بعض الأمور الفارقة.
التعلم ومقاساة الغربة
أدرك أبي وأمي مبكرًا أن العلم والمعرفة عوامل مهمة بالنسبة لي لتمدني بالقوة والعزيمة والثقة بالنفس في مواجهة تحديات الحياة القادمة.
أيقنا تماما أن الناس يجب ألا تحكم علي بإعاقتي وعجزي، بل بعقلي وفكري.
آلمهم كثير سماع كلمة مسكينة ما تشوف في كل مرة يأخذوني معهم إلى أي مكان عام.
دايما كانوا يرددوا بنتنا ما مسكينة، هي ما تشوف، لكنها تقدر تسوي كل شي تقدروا تسووه لكن بطرق مختلفة.
فالعجز ليس بفقدان إحدى الحواس، وإنما بأن تمتلك جميعها وتعطلها ولا تستخدمها في خدمة ذاتك ومجتمعك.
لم يكن العثور على مدرسة أمرًا يسيرًا، راحا يبحثان بطرقهما المختلفة،
في أحد الأيام، ذهبت أمي لتستعطف مديرة المدرسة القريبة من البيت لتسمح لي بأن أكون مستمعة في الصف وأدرس مثل بقية البنات من عمري، كان يحزنها جلوسي في البيت وترى بقية البنات تروح وتجيء من المدرسة.
قوبل طلبها بالرفض طبعا، فلم يكن تدريس أطفال من ذوي الإعاقة أمرا متاحًا لدى مدارسة التربية والتعليم.
أما أبي، فقد وجد لي مدارس في بلدان مختلفة، فدفعه إيمانه بالعلم والمعرفة أن يرسلني وأنا طفلة في السابعة من عمري للدراسة في مملكة البحرين بدعم وإشراف من وزارة التربية والتعليم في السلطنة.
لكل من عارضه وحاول ثنيه عن الأمر في تلك الفترة، كان يقول لهم: ” تريدوا بناتكم وأولادكم يدرسوا وينطلقوا في الحياة ويحققوا أهدافهم وتجلس هي هنا بلا هدف ولا غاية؟”
قال: “نضحي ونعاني الحين، عشان ما نندم على ضياع مستقبلها بعدين.”
سافرت للبحرين طفلة صغيرة، حاملة معي حقيبة أمتعتي وشريط يحوي أصوات أبي وأمي وأخوتي عوضًا عن الصور التي تحوي الوجوه والألوان، لأروي بها ظمأ الشوق والحنين.
كانت تلك فكرة أبي الذي حسب حساب كل شيء تقريبا، أراد أن يقويني ويبث في الإرادة والعزيمة بطريقته.
عدت من البحرين بعد اغتراب 9 سنوات لم أزر أسرتي إلا في بضع أشهر من السنة أوقات العطلة الصيفية وعطلة الربيع، عدت بشخصية قوية، وحظ وافر من العلم والمعرفة مكنني من اكتسابه تعلمي طريقة برايل وهي طريقة القراءة باللمس والكتابة بنقاط بارزة، رجعت بإرادة راسخة وشغف نحو المستقبل وتحقيق الذات.
درست هناك حتى الصف التاسع، حيث كانت سياسة المعهد الذي درست فيه تقتضي أن يدمج الطلاب المكفوفين في المدارس الحكومية بعد ذلك حتى يتأقلموا ويتهيأوا للحياة الجامعية، رجعت لعمان بشهادة امتياز وتفوق حصلت فيها على نسبة 97%، وبموافقة التربية والتعليم، درست في مدرسة حكومية للبنات في عبري.
طالبة كفيفة بين 1000 طالبة مبصرة
من أكبر اتحديات في انضمامي لمدرسةالإناث هو تقبل المعلمات والإداريات والطالبات لوجودي بينهن، لأن كان الأمر كان جديد كليًا على الجميع.
قبلن التحدي، البعض بحماس كبير والبعض الآخر بتردد وتخوف من المجهول.
أما أنا، مع قليل من الخوف وحماس للتجربة الجديدة ورغبة في إثبات الذات وتجاوز التحدي، أقبلت على تلك المرحلة الجديدة والصعبة من حياتي.
كنا أنا وأهلي نعرف أن هناك الكثير من التحديات أمامنا، الكتب ما كانت مهيئة بطريقة برايل، ولكن كان أهلي وبعض بنات العائلة والجيران يسجلوها لي صوتيا على أشرطة لأذاكر منها،
كنت أؤدي الامتحانات شفويًا، المعلمة تقرأ السؤال وأنا أجيبها وهي تكتب.
جمال تلك المرحلة يكمن في أنني كان لدي رغبة ملحة بأن أثبت لنفسي والجميع بأنني لست مختلفة في شيء عن الأخرياتن حتى وإن كنت لا أرى فعقلي قادر على الفهم والتفكير ومنافسة قريناتي بجدارة.
يقال أن الإنسان إذا أراد شيئا وسعى للحصول عليه، فإن كل الكون يتعاون معه لتحقيق إرادته، وهذا ما حصل معي في تلك المرحلة.
كنت أجد العون والمساندة من معلماتي وزميلاتي وأهلي، الأمور كانت تتيسر.
ألق الانتصار على التحديات
اتصلت بوالدي أبشره بنتيجتي التي حصلت عليها، أتذكر يومها قلت له: “حصلت على نسبة 94.88% الحمد لله” قال لي: “شفتي؟ لو ما سافرتي وعانيتي وتعلمتي ما كنتي حصلتي نسبة تدخلك الجامعة مثلما تتمني ونتمنة”
كبرت وكبرت معي التحديات وتعاظمت
قبلت بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس رحمه الله وطيب ثراه، الجامعة التي يحلم بالدراسة فيها معظم العمانيين.
اخترت هذه الكلية لأدرس الترجمة، التخصص الذي يتناسب مع شغفي وحبي للغات ومع قدراتي وإمكاناتي، لكنه كان مغلقًا أمامي وأمام فاقدي البصر بحجة أن الكادر الأكاديمي غير مهيئ لتدريسنا، ولأن المكفوفين يقبلون في تخصصين لا ثالث لهما، اللغة العربية والتاريخ فقط، وأن المكفوفين يؤدون كل دراستهم بالاعتماد على السمع ويؤدون الامتحانات شفويًا وذلك كان مستحيلا في قسم اللغة الإنجليزية.
زادني الأمر إصرارًا وتشبثا بهذا الحلم والاختيار، كنت أعلم أنني إن نجحت فيه، فأفسح المجال لي ولغيري، وهذا ما سعيت له.
انقسمت الهيئة الإدارية والأكاديمية بين معارض ومؤيد، فغلب صوت من آمن بقدراتنا وإمكاناتنا فمنحت فرصة دراسة التخصص وإثبات أننا قادرون.
كنت وقتها قد تعلمت بجهد ذاتي وبمساعدة بعض الزملاء من دول أخرى استخدام الكمبيوتر المزود بقارئ شاشة، والذي يجعل الكمبيوتر يتكلم وينطق كل ما يقع عليه المؤشر، وهذا ما ساعدني كثيرا في الدراسة، فالتقنية فتحت لي بابًا كان مؤصدا.
التنقل من مبنى لآخر، وقراءة الكتب الكثيرة والضخمة كانت من أعظم التحديات في تلك المرحلة، لكن بتكاتف الجميع ودعم الأهل ومن حولي تمكنت من التخرج بعد 4 سنوات ولله الحمد.
تختلف القدرات ولكن تتساوى الإمكانات
بعد جهد ورفض وعناء، حصلت على وظيفة في مؤسسة حكومية، آمن المسؤولين فيها بطاقاتي وقدراتي، فصرت أعمل كاتبة محتوى إلكتروني، أترجم النصوص وأحررها واشتغلت أيضًا في قسم الإعلام فصرت اكتب الخطابات، والأخبار الصحفية وغيرها الكثير.
استعين بالتقنية في إنجاز مهام عملي، من التواصل عبر البريد الإلكتروني وتصفح الإنترنت والتواصل مع الآخرين، فلم يكن هناك فرق بيني وبين زملائي في العمل.
ولأن الطموح لا يتوقف، في عام 2016، وبعد أن رفضت من بعض الجامعات، حصلت على فرصة لدراسة الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة بريطانية عن بعد، وانهيت الدراسة في عام 2018 ولله الحمد.
في 31 إغسطس 2018، أخذ الله أبي إلى جواره، رحل من كان سنداًا ويدًا حانية ونورًا أضاء لي الطريق،
رحل ومنحني قوته وصبره وشيء من حكمته
اتخذت من تلك الصدمة وذاك الألم وقودًا للعطاء والكفاح كما كان أبي رحمة الله تغمره يحب ويريد لي دوما.
مقطع من مقولة أبي، الكفيف لا يحتاج إلى شفقة، بل يحتاج إلى فرصة.